ولدت في بغداد بالعراق عام 1967 في عائلة أرثوذكسية. ويسمي العرب هذه السنة بسنة النكسة والتي فيها خسروا الحرب أمام إسرائيل. ولما كان عمري 40 يوم حملتني أمي إلي الكنيسة وتعمدت كبقية إخوتي. وعندما بلغت الثانية من عمري انتقلنا إلي البصرة في الجنوب. وبسبب بعض الأسباب السياسية التي لا أستطيع ذكرها قرر والدي أن يكون مسلماً وأكرهنا علي ذلك وغير أسمائنا وبطاقاتنا لكي نكون مسلمين.
وكان عدد المسيحيين في جنوب العراق قليلاً. وكنت أحب القرآن طوال فترة طفولتي وأستمع إلي ترتيل القرآن بالتلفزيون وبدأت أنا أرتله بنفسي. وكانت أمي تضحك عندما تراني وأنا طفل في السابعة أرتل القرآن كالشيخ الصغير. وكانت الآيات القرآنية في كل المنزل وكذلك صورة الإمام علي وابنه عباس. وجذبني شخصية الإمام علي وكم كان حكيماً وقوياً وآمنت بذلك كل الإيمان حتي اعتقدت أنه يسمع لمن يصلي له أو يطلب منه معجزة. ولأنني مسلم شيعي كان علي أن أتبع خطواته وتعاليمه عن الإسلام وأبذل جهدي في رفض وكراهية كل من يقلل من شأنه.
ومات أبي وأنا في الحادية عشر ولم نكن نتوقع ذلك كما لم أتمكن من فهم لماذا حدث ذلك ؟ وسألت الإمام علي عن هذا الأمر. وكنت في حاجة إلي توضيح ولكن لم تستجاب صلواتي. وبعد ستة شهور قررت أمي أن نعود إلي بغداد. لم أكن أريد ذلك إذ لم أستطع ترك أبناء عمي وأعمامي وخالاتي وأصدقائي ومدرستي وقطتي أيضاً. ولدهشتي أخبرتني أمي أن كل هؤلاء الناس ليسوا هم أسرتنا. وأن أبناء عمي وأعمامي وخالاتي وحتي إخوتي الإثنين وأختي هم غير أشقاء من زوجة أخري تزوجها أبي والتي ماتت قبل أن يتزوج أمي وكان كل هذا احتيال وزيف. والشئ الوحيد الذي يربطنا بهم هو أوراق إثبات الشخصية والسنوات الصعبة التي اجتزناها. وفي بغداد أسرعت أمي لتعرفنا بأسرتنا الجديدة. وعلمت أن والدها توفي من عدة سنوات. وقد حزنت والدتي لأن أباها لم يوافق علي رحيلها إلي البصرة في الجنوب ولكنها اضطرت إلي ذلك. وفجأة تعرفت علي أولاد عمي الجدد وخالاتي وأقربائي. وأعترف أنني الوحيد الذي ارتبكت بسبب هذه الفوضي التي حدثت لأنني كنت الأصغر في العائلة ولم يكن لدي أي فكرة عما حدث في الماضي. وسمحت لي أمي أن أعيش مع إحدي أخواتها حتي أستوعب الظروف الجديدة. وكنت في حالة من الرفض والغضب لأنهم أرادوا أن يعلمونني لغتهم الأشورية التي رفضتها منذ عدة سنوات لأنني أحب اللغة العربية. وحاولوا أن يأخذوني إلي كنيستهم وحفلاتهم. وأخيراً وبعد بضع سنوات قبلتهم كأقرباء. ولكنني قررت أن أعيش في عزلة عنهم وعن معتقداتهم التي كنت أعتبرها نوعاً من الكفر.
واستمريت في الذهاب للمدرسة كطالب مسلم. وتعودت أن أعد أسئلتي بالمنزل وعندما أقابل أي مسيحي أهاجمه بهذه الأسئلة. وشعرت بالانتصار عندما لا أجد إجابة لأسئلتي بل تحمر وجوههم ويتركونني. ثم بدأت في الذهاب إلي الكنيسة وحضرت الدراسات الكتابية وسألت القسيس نفس الأسئلة. وظل معي شعوري السابق وازداد إيماني بالإسلام وكراهيتي للمسيحيين أكثر فأكثر. وعدت إلي المنزل بعد يوم طويل فوجدت أمي وأخواتي يشاهدون فيلم “يسوع” بالفيديو وسمعت صدفة أن بطرس يدعوا المسيح الله. وغضبت للغاية وبدأت أصيح في أمي وأخواتي وأخرجت الفيلم من جهاز الفيديو وحطمته إلي نصفين كما حطمت كل الصور عن المسيح وعن مريم بالمنزل وألقيت بهم بعيداً. وبدأت أمي تبكي بشدة وثار ضدي الجميع. ولم أتمكن من الحديث مع أمي إلا بعد ثلاثة أيام.
واشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية وأرادت الحكومة العراقية أن ترسل بعض الجنود العراقيين ليخرجوا اليهود من جنوب لبنان. ولأنني أكره اليهود أكثر من أي مسيحي ذهبت إلي سفارة لبنان في بغداد وسجلت أسمي وكتبت “أنا ملتزم بالذهاب إلي لبنان لقتل اليهود القذرين” ولكن رجل الأمن انتحي بي جانباً وقال لي “أنت لن تحارب اليهود بل ستحارب السوريين”. وعندما عرفت أنني سأقتل مسلمين مثلي تراجعت عن الرحلة.
في ذلك الوقت طبعت أول كتاب لي وكنت فرحاً به للغاية. وأصبحت مشهوراً بين أصدقائي وطلبوا مني أن أكتب شيئاً للإذاعة. وعندما عبرت عن رغبتي في الكتابة للأطفال طلبني التليفزيون وبعد ستة شهور حصلت علي منحة للإلتحاق بأكاديمية الفنون في بغداد. وهذا أحدث تغيراً جذرياً في اتجاهي. وبالرغم من كوني كاتباً وشاعراً أردت دراسة علم القرآن. وانتهت الحرب مع إيران بعد ثمانية سنوات وفرح الجميع بذلك. ورقص الناس في الشوارع حتي الصباح لحلول السلام وبدي كل شئ جميلاً ومستقراً ولكنني كنت أشعر بفراغ كبير في روحي. ومضت سنتان وأنا أحاول أن أجد إجابة علي أسئلتي التي كانت تلح علي.
وبدأت أتساءل إذا كان يوجد إله حقاً لماذا يسمح بكل هذا يحدث لي ولعائلتي. من أنا ؟ هل أنا مسلم كما قيل لي وكما نشأت علي هذا ؟ أم أنا مسيحي بالمولد والعماد ؟ هل أنا عربي أم آشوري ؟ هل أنا إنسان أم حيوان لكي أعامل بمثل هذه الطريقة ؟ ولم أعد أشعر أن العراق التي أحببتها هي بلدي. أردت أن أجد نفسي التي فقدتها في العراق.
وفي الأول من أغسطس 1990 غادرت العراق إلي تركيا بغرض واحد وهو البحث عن حريتي وحياتي الجديدة. وبعد سبع ساعات غزت العراق الكويت. وكنت قد وصلت إلي استطنبول وكانت هذه هي العلامة الأولي للخلاص. وانقطعت كل الاتصالات التليفونية من وإلي العراق. وانقطعت صلتي بعائلتي لمدة عام ونصف. وتناقص المال بين يدي. وتنقلت من بلدة إلي أخري محاولاً أن أجد وظيفة لأعيش. ونمت تحت شجرة في أنقرة لمدة ثلاثة أيام بعد أن بعت كل ممتلكاتي وليس لدي ما أبيعه ومرضت وتوقعت الموت في أية لحظة. بدأت أطرق أبواب السفارات غريماً بأي بلد أسافر إليها إذ أنها ستكون أفضل من العراق وتركيا. لم يقبلني أحد. حتي مكتب الأمم المتحدة رفض طلبي كلاجئ. واجتزت محنة شديدة. ولو أمسك بي البوليس التركي سوف يعيدني إلي العراق لأن تأشيرتي قد نفذت منذ فترة طويلة. ولم يكن أمامي أي اختيار آخر غير الذهاب إلي سوريا رغم أن المجلس السوري نصحني بغير ذلك. أخذت الأتوبيس إلي مدينة أنطاكية ومن هناك كنت أرجو أن أذهب إلي حلب. وخلال الشهرين الذين قضيتهما في تركيا بدأت أستمع لصوت المسيح في داخلي وأعترف أنني توقفت عن الذهاب للمسجد وأنا في أنقرة وبدأت في قراءة القرآن. ولكنه فقد تأثيره علي فجأة ولم يجذبني في محنتي هذه كما لم يحدث من قبل. وفي الأتوبيس وأنا في طريقي إلي أنطاكية تعرفت علي شاب تركي مسلم أصبح صديقي فيما بعد. وأخذني إلي الكنيسة الكاثوليكية في أنطاكية حيث التقيت بالأب فرانسيسكو وراهبة تدعي باربارا. وقدموا لي مساعدة عظيمة وكانوا مصدر راحة لي طوال الثلاثة شهور التي قضيتهما في أنطاكية. وأعطتني باربارا الكتاب المقدس باللغة العربية وطلبت مني أن أقرأه. واعتدت أن أقرأ الكتاب كل ليلة قبل ذهابي للسرير في منزل الأب فرانسيسكو. ورفعت الكنيسة صلاة من أجلي كل ليلة وطلبت من الله أن يفتح أمامي أبواب السفر لأي بلد يمكن أن أجد فيه السلام والحرية. وبدأت أسأل المسيح لكي يباركني واعتذرت عن غباوتي الماضية. وفي أحد الأيام كنت بمفردي بالمنزل وأشعر باليأس لرفض مكتب الأمم المتحدة لطلبي كلاجئ كما أنني كنت بعيداً عن أسرتي وبدون أي اتصال بهم. أطفأت الأنوار وذهبت للنوم. ثم استيقظت وكان الظلام شديداً لدرجة أنني لم أتمكن من رؤية يدي. وقمت ومشيت محاولاً أن أفتح الباب وسقطت علي السلم وأصبت إصابة بالغة. وفي وسط الظلام والألم امتدت يد قوية وأمسكتني وكنت متأكداً أنه الأب فرانسيسكو. وأخذ بيدي لكي أنهض ووضع يده علي كتفي وقال لي “لا تنزعج سوف أهتم بك وسيكون كل شئ علي ما يرام”. وتنبهت وأنا أتصبب عرقاً. واندفعت إلي غرفة نوم الأب فرانسيسكو ولكني لم أجده. وبعد ثوان أدركت أنني في حلم. وعدت إلي سريري بعد صلاة قصيرة ورأيت حلماً ثانياً. وفي هذه المرة كان يسوع الذي رأيته في الفيلم منذ عدة سنوات يوم أن حطمت الشريط. لقد كان معلقاً علي الصليب وكانت المسامير في يديه وقدميه ورغم هذا فقد ابتسم لي وتحدث معي. وبالرغم من أنه كاد أن يموت ولكنه كان جميلاً. كان الصليب ضخماً وكنت أبدو كطفل أمامه. ورجعت برقبتي لكي أحاول أن أري وجه يسوع كاملاً وفجأة نزلت دائرة كبيرة من الضوء من فوق الصليب وجاءت علي. واستيقظت إذ طلع النهار.
وفي الصباح اندفعت إلي باربارا لأحكي لها ماحدث. ولكن نادت علي سيدة عجوز إعتادت أن تعطيني السندوتشات بين الحين والآخر وأخبرتني أنها رأت حلماً خاصاً بي. وقالت أنها رأتني وأنا أركب حصاناً أبيض وأطير إلي مكان آمن. وبعد أسبوع استدعتني السفارة الأمريكية بينما كنت أعمل في بعض الإنشاءات بالكنيسة وأعطوني التأشيرة للولايات المتحدة. وكان هذا معجزة في حد ذاته لأن تأشيرتي انتهت من مدة طويلة وأقامتي غير قانونية. وبالإضافة إلي هذا فمازال الجيش العراقي في الكويت وستقود المشاكل إلي حرب بين العراق والولايات المتحدة. وحاول الكثيرين أن يأخذوا تأشيرة إلي أمريكا ولكنهم فشلوا. واستجاب الله لصلاة الكنيسة وقبلني إبناً له. ومنذ ذلك الوقت بدأت علاقة شخصية بالمسيح وأصبحت خليقة جديدة فيه.
وأعتقد أنه من المهم لأي شخص أن يعرف إلهه ومخلصه ويختبره اختباراً حقيقياً. لقد ولدت في بغداد حيث أمر أبو جعفر المنصور المهندسين لكي يصبوا البترول علي الأساسات وأشعل فيها النيران حتي يري ويستمتع بتخطيطه في الحياة الحقيقية. كم كانت فكرة حمقاء وأعتقد أن الخليفة أعلن موت المدينة قبل مولدها. ولكن الله أخذني إلي أنطاكية حيث سمي المسيحيين أولاً هناك. لقد أزال الرب اللعنة وأعطاني حياة جديدة فيه. إن صلاتي أنه هو يزيد وأنا أنقص حتي أعيش له كلية حتي نهاية حياتي علي الأرض “لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلي راعي نفوسكم وأسقفها” (بطرس الأولي 2 : 25) آمين.
عبد الله