إن هذا السؤال مهم جداً، لأن حول صلب المسيح وقيامته ترتكز تعاليم الديانة المسيحية. والكتاب المقدس الذي يعتبر مصدر الإيمان المسيحي، يؤكد لنا حقيقة صلب المسيح، كما يؤكد أن المسيح نفسه صُلب، ولم يُصلَب عنه أي إنسان آخر. وبحسب التعاليم المسيحية، فإن المسيح لم يُصلب عبثاً، لأن لصلبه مغزىً روحياً عميقاً، وهو إتمام عمل الفداء الذي أتى من أجله إلى العالم، وإجراء المصالحة بين الله القدوس والإنسان الخاطيء، كي يتبرر الخطاة بواسطة صلبه وموته نيابة عنهم. وعندما نتكلم عن صلب المسيح وموته فداء عن الجنس البشري لابد من الرجوع إلى جذور الموضوع ليتسنى لنا فهم الحقيقة الأساسية التي يرتكز عليها صلب المسيح.
فما لا شك فيه بالنسبة للعقيدة المسيحية أن المسيح صُلب. أما لماذا صلب، فهذا ما سنحاول إيضاحه. إذ أن موت المسيح على الصليب كان بمثابة كفارة، أو بمثابة ذبيحة لمغفرة الخطايا. فالمسيح البار مات على الصليب بدلاً من الناس الخطاة حتى يتبرروا هم بموته، أي حتى يتحرروا أو يتخلصوا من الخطية. فالخطية دخلت العالم بواسطة آدم الأول، والخلاص من الخطية هو بواسطة آدم الثاني، المسيح. كما جاء في الكتاب المقدس “لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع” (1كورنثوس22:15). وعندما نرجع إلى سفر التكوين نقرأ قصة الخليقة ومن ضمنها قصة تعدّي أبوينا الأولين آدم وحواء شريعة الله. فنلاحظ أن آدم وحواء أخطآ منذ بداية الخليقة، وبعصيانهما ومخالفتهما شرائع الله دخلت الخطية العالم. ومفاد ذلك كما ورد في سفر التكوين أنه بعدما خلق الله آدم وحواء ووضعهما في جنة عدن، أوصاهما أن يأكلا من كل شجر الجنة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر. ولكن آدم وحواء لم يطيعا، بل عصيا أوامر الله وأكلا. وبسبب ذلك، غضب الله عليهما وعلى الحية التي أغرت آدم وحواء، وقال للحية: “ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عدواة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (تكوين 14:3-15). وغضب الله على آدم وحواء وطردهما من الجنة. من هنا بدأت خطية الإنسان، فأصبح الناس يتوارثون الخطية التي ورثوها عن أبويهم آدم وحواء. وهنا كان الوعد من الله بأنه سيرسل المسيح من نسل المرأة أي من عذراء وليس من نسل رجل، ليسحق رأس الحية، أي الشيطان. ويشير الكتاب المقدس بهذا الصدد إلى أن كل الناس خطاة فيقول: “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رومية23:3). ونقرأ أيضاً في رسالة رومية: “من أجل ذلك كأنه بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع” (رومية12:5). وبما أن الجميع خطاة لا يستطيعون تتميم وصايا الله وناموسه، فقد حاول البعض منهم في العهد القديم أي قبل مجيء المسيح التكفير عن خطاياهم بطرق مختلفة.
مثلاً: قدم سيدنا نوح ذبائح لله، فيقول الكتاب المقدس: “وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح” (تكوين20:8). ونلاحظ أن النبي موسى أيضاً عليه السلام قال لفرعون ملك مصر قديماً، عندما لم يرد أن يعطيه ماشية بني قومه: “أنت تعطي أيضاً في أيدينا ذبائح ومحرقات لنصنعها للرب إلهنا فتذهب مواشينا أيضاً معنا” (خروج 25:10-26). ونقرأ في سفر اللاويين ما يلي: “إذا أخطأ رئيس، وعمل بسهو واحدة من جميع مناهي الرب إلهه، التي لا ينبغي علمها وأثم، ثم أعلم بخطيته التي أخطأ بها يأتي بقربانه تيساً من المعز ذكراً صحيحاً، ويضع يده على رأس التيس ويذبحه في الموضع الذي يذبح فيه المحرقة أمام الرب، أنه ذبيحة خطية” (لاويين 22:4-24). كما أن الله عندما أراد أن يختبر إيمان إبراهيم الخليل عليه السلام، طلب منه أن يقدم ابنه ذبيحة له. وعندما همّ إبراهيم بذبح ابنه افتداه الله، فأرسل كبشاً قدمه إبراهيم ذبيحة لله بدل ابنه. والجدير بالذكر أن الذبائح والقرابين ترجع إلى عهد بعيد جداً، حينما قدم قايين هابيل ولدا آدم وحواء ذبائحهما لله (تكوين4). كما أن المؤمنين في العهد القديم اعتادوا أن يقدموا لله ذبائح، كل بيت يقدم حملاً أي خروفاً بلا عيب.
علاقة هذه الذبائح بموت المسيح : إن تلك الذبائح والحملان كانت تقدم للتكفير عن الخطايا، ولكنها في الوقت نفسه كانت تشير أو بالأحرى ترمز إلى المسيح، الذي سفك دمه بدلاً عن الخطاة. ويقول الكتاب المقدس: “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عبرانيين22:9). فالمسيح الذي يُشار إليه بأنه “حمل الله” الذي تنبأ عنه أنبياء العهد القديم بأنه مسيح الله، هو الذي وعد الله بإرساله ليضع حداً لعهد الذبائح والمحرقات، ويفتدي العالم بذبيحة واحدة هي المسيح نفسه. ويشير الكتاب المقدس إلى المسيح، بقوله: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يوحنا29:1). ويقول أيضاً، إن الرب أعدّ المسيح ليكون ذبيحة تبطل ذبائح العهد القديم فنقرأ ما يلي: “اسكت قدام السيد الرب لأن يوم الرب قريب، لأن الرب قد أعدّ ذبيحة قدس مدعويه” (صفنيا7:1). وقد تمت هذه الذبيحة بموت المسيح على الصليب حسب قول الكتاب المقدس “فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة” (عبرانيين 10:10).
تأكيدات من الكتاب المقدس تشير إلى أن موت المسيح بقصد خلاص الجنس البشري من الخطية
“الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة (أي على الصليب)، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر، الذي بجلدته شفينا” (1بطرس24:2). وأيضاً قول الله تعالى: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا16:3). وهكذا علينا أن ندرك أنه في عملية صلب المسيح، تمت المصالحة بين الله القدوس والإنسان الخاطيء. والدليل على ذلك ما ورد في رسالة بولس: “كان الله في الصليب مصالحاً الكل لنفسه.. عاملاً للصلح بدم صليبه بواسطته” (كولوسي20:1). ولهذا السبب كان من الضروري أن يموت المسيح على الصليب من أجل الخطاة، كما أن ذلك كان بترتيب من الله. وقد أطاع المسيح ذلك الترتيب، فنقرأ عن المسيح ما يلي: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فيلبي 5:2-11).
هل هناك علاقة بين تعاليم الدين المسيحي وتتميم شعائر العهد القديم بالنسبة لصلب المسيح؟
يُعتبر موت المسيح على الصليب نقطة أساسية بالنسبة للعقيدة المسيحية، لأنه بواسطة موته أزال الحواجز بين الله القدوس والإنسان الخاطيء. لقد كان موته كفارة عن خطايا البشر، وهو يتمم شعائر العهد القديم ويضع حداً لها، ولفهم هذا الموضوع بطريقة أوضح، لابد من الرجوع إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. لقد كانت نبوات وشعائر العهد القديم ترمز بشكل أو بآخر إلى المسيح وعمله الفدائي، وقد تمت هذه النبوات بمجيئه ومن ثم بفدائه. فعندما جاء يسوع أعلن أنه لم يأتي لينقض بل ليكمل (متى17:5). وقد أكمل المسيح بمجيئه كل ما هو ناقص، ولا سيما عمل الفداء العظيم الذي اكتمل بموته على الصليب.
فموضع الكفارة من أساسه يدور حول موضوع الخطية والتبرر منها، أي الخلاص من الخطية. وموضع الخطية هذا قديم قِدَم الإنسان، إذ أن الخطية دخلت إلى العالم بواسطة آدم الأول الذي عصى أمر الله. والعصيان هو عدم إطاعة أوامر الله أو عدم السلوك حسب شرائعه، وبما أن الله قدوس، فهو يكره الخطية ويعاقب عليها. ومع أنه رحوم محب، إلا أنه إله عادل أيضاً، وعدله يقضي بأن “النفس التي تخطيء هي تموت” (حزقيال20:18). “لأن أجرة الخطية هي موت” (رومية23:6).
وللتكفير عن الخطايا، كانت شعائر العهد القديم ترتكز على تقديم الذبائح والمحرقات لأنه “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عبرانيين22:9). وعلى هذا الأساس كانت تقدم القرابين بعد سفك دمها كعلامة للتوبة، وللحصول على المغفرة.
وبالرجوع إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، نلاحظ في سفري الشريعة أو الناموس المعروفين بسفرّي “اللاويين” و”العدد”. بأن كل من يعمل واحدة من الأمور التي ينهي عنها الله يخطيء، وعليه أن يتحمل نتيجة خطيته، وقد ورد في الكتاب المقدس ما يلي: “وإذا أخطأ أحد وعمل واحدة من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها، ولم يعلم كان مذنباً وحمل ذنبه” (لاويين17:5). أي أنه يتحمل مسؤولية خطيته. فكان الناس في العهد القديم يحاولون التكفير عن خطاياهم بواسطة الذبائح والمحرقات، ومنها الحملان والتيوس والثيران وغيرها. هذا بالنسبة للعهد القديم أي ما قبل المسيح، ولكن اللاهوت المسيحي يشير إلى أن هذه الذبائح كلها كانت مجرد رموز ترمز إلى المسيح “لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا” (عبرانيين4:10).
فالسيد المسيح أتم ناموس الذبائح وأبطل عهدها بتقديم نفسه كذبيحة، أو بسفك دمه الكريم على الصليب مرة واحدة من أجل الخطاة (عبرانيين27:7). ويقول الكتاب المقدس بهذا الصدد إن المسيح قام بعمل المصالحة بين الله القدوس والإنسان الخاطيء، “عاملاً الصلح بدم صليبه” (كولوسي20:1). وقوله أيضاً عن المسيح: “الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا” (أفسس7:1). “إنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب، هو دم المسيح” (1بطرس 18:1-19). وقوله أيضاً عن المسيح: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يوحنا29:1). وأيضاً “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة” (1بطرس24:2). فبموت المسيح على الصليب أكمل ناموس الذبائح بتقديم نفسه كذبيحة. ولهذا لم يعد من الضروري أن يقدم الناس الذبائح للخلاص من الخطية، لأن المسيح “بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تيموثاوس6:2). وهكذا نرى، أنه بواسطة موت المسيح على الصليب انتهى عهد الذبائح، لأنه كان الذبيحة الأخيرة المرتبة من الله. فالمسيح مات لأجل الخطاة. وقام فيما بعد ليمنحهم الحياة، فكل من يؤمن به يخلص ويحصل على الحياة الأبدية.
+ هل صلب المسيح نفسه، أم أن شخصاً آخر يشبهه صُلب بالنيابة عنه؟
كان المسيح هو الشخص الحقيقي الذي علّق على الصليب. ولا يعقل أن يكون الله اختار شخصاً آخر ليموت بدل المسيح لأن في ذلك طعناً في محبة الله وعدالته ومعرفته، كما أن ذلك طعن في شهادة المسيحيين أتباع يسوع الذين عرفوه شخصياً، وآمنوا به وشاهدوه بأم أعينهم معلقاً على الصليب. وأنزلوه بأيديهم على الصليب. ولو أنكرنا هذا، لكان ذلك طعناً بالتواتر، والطعن بالتواتر يوجب الطعن بنبوة كافة الأنبياء وهذا لا يجوز. كما أن شهادات رؤساء اليهود وهم أعداء المسيح، كلها تشير إلى صلب المسيح وبهذا الصدد نؤكد مرة ثانية بأن إيمان المسيحيين يرتكز على موت المسيح الفدائي، وغلبته على الخطية والشر ثم قيامته المجيدة من بين الأموات في اليوم الثالث.