لو أن اللّه صار إنساناً، فكيف يجب أن يكون؟ – أو هل كان للمسيح صفات اللّه؟
وقبل إجابة هذا السؤال يلزمنا الإجابة على سؤال آخر، هو: لماذا يصير اللّه إنساناً؟ وللإجابة نقدم مثلاً عن فلاح يحرث حقله. فلنفترض أنك أنت ذلك الفلاح وتُلاحظ عش نمل في طريق المحراث، ولنفترض أنك تحب النمل، فتفكر أن تسرع إليهم لتحذيرهم. وتصرخ محذّراً، لكنهم يستمرون في عملهم، فتستعمل لغة الإشارة، وكل وسيلة أخرى تعرفها، ولكن النمل لا ينتبه. لماذا؟ لأنك عاجز عن الاتصال بهم. فما هي أفضل طريقة لذلك؟ هي أن تصير نملة فيفهمون ما تقول.
ولما أراد اللّه أن يتصل بنا، وجد أن أفضل طريقة هي أن يصير إنساناً مثلنا، فيكون على اتصال مباشر بنا.
والآن لنجاوب سؤالنا الأصلي: لو أن اللّه صار إنساناً، فكيف يكون؟
يجب أن يملك كل صفات اللّه، ويدخل عالمنا بطريقة لم يدخله بها أحد من قبل، ويعمل أعمالاً معجزية، ويكون بلا خطية، ويترك أثره العظيم الباقي على العالم كله، مع أشياء أخرى عظيمة كثيرة.
وإنني أعتقد أن اللّه جاء إلى العالم في المسيح، وأن المسيح أظهر كل صفات اللّه. ولننظر الآن إلى هذا المخلِّص:
لو أن اللّه صار إنساناً، فإننا نتوقع منه أن:
1 – يدخل إلى العالم بطريقة غير عادية.
2 – يكون بلا خطية.
3 – يُجري المعجزات.
4 – يكون مختلفاً عن كل ما عداه.
5 – يقول أعظم ما يُقال.
6 – يكون تأثيره شاملاً ودائماً.
7 – يُشبع جوع الناس الروحي.
8 – يكون له سلطان على الموت.
أولاً – لو أن اللّه صار إنساناً
لصار دخوله إلى العالم بطريقة غير عادية
وميلاد المسيح من عذراء برهان على هذا! ونجد القصة في إنجيلي متى ولوقا، وقد سبق ورودها كنبّوَة في العهد القديم، ما معناه نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15) وهذا يعني أن المخلص الآتي سيكون من نسل امرأة، لا من رجل. وهناك نبوة أصرح في إشعياء 7: 14 هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ولا شك أن هذه العذراء هي المرأة المشار إليها في التكوين 3: 15.
وقد وردت كلمة العذراء هذه ست مرات أخرى في الكتاب المقدس، بمعنى الفتاة التي لم تتزوج وقد تُرجمت إلى اليونانية في الترجمة السبعينية بكلمة عذراء كما اقتبسها متى (1: 23) على أنها تحققت في ولادة يسوع من العذراء. ويقول إشعياء إن ولادة العذراء معجزة وآية من اللّه نفسه: يعطيكم السيد نفسه آية وهذا معناه ولادة غير طبيعية سبق أن تنبأ عنها إشعياء منذ أجيال بعيدة.
وتتَّسم قصة البشيرين عن الميلاد العذراوي بالدقة التاريخية، فلوقا يقول إنها حدثت وقت تعداد (اكتتاب) أَمَرَ به كيرينيوس. وقد ظن البعض أن كيرينيوس حكم سوريا سنة 8 بعد الميلاد، فيكون التعداد حدث بعد مولد المسيح وبعد موت هيرودس. لكن ثبت أن كيرينيوس حكم مرتين: أولهما من 10 – 7 ق. م، وهذا يجعل الإحصاء الأول وقت ولادة يسوع، وقبل موت هيرودس بقليل، وهو عام 4 ق. م.
ومع أن متى ولوقا يرويان قصة ميلاد يسوع من زاويتين مختلفتين، وقد استقيا المعلومات من مرجعين مختلفين، إلا أنهما يتفقان في أن يسوع حُبل به بالروح القدس من مريم العذراء المخطوبة ليوسف، الذي كان يعلم سرَّ ما حدث لخطيبته.
ونقدم هنا اثنتي عشرة نقطة للتوافق بين قصتي متى ولوقا:
1 – وُلد يسوع في أواخر أيام هيرودس (متى 2: 1 ، 13 ، لوقا 1: 5).
2 – حُبل به من الروح القدس (متى 1: 18 و 20 ، لوقا 1: 35).
3 – أمه عذراء (متى 1: 18 و 20 و 23 ، لوقا 1: 27 ، 34).
4 – كانت مخطوبة ليوسف (متى 1: 18 ، لوقا 1: 27 ، 2: 5).
5 – يوسف من نسل داود (متى 1: 16 و 20 ، لوقا 1: 27 ، 2: 4).
6 – وُلد يسوع في بيت لحم (متى 2: 1. لوقا 2: 4 و 6).
7 – دُعي اسمه يسوع بتوجيه إلهي (متى 1: 21 ، لوقا 1: 31).
8 – أُعلن أنه المخلِّص (متى 1: 21 ، لوقا 2: 11).
9 – عرف يوسف مقدماً بما جرى لمريم، وسببه (متى 1: 18 – 20 ، لوقا 2: 5).
10 – مع هذا فقد أخذ مريم وتحمَّل مسؤليته من نحو الطفل يسوع (متى 1: 20 و 24 و 25 ، لوقا 2: 5).
11 – صاحبت إعلان الميلاد رؤى وإعلانات (متى 1: 20 ، لوقا 1: 26 و 27).
12 – عاشت مريم ويوسف في الناصرة بعد ولادة المسيح (متى 2: 23 ، لوقا 2:39).
ولا يوجد تناقض واحد في سلسلة نسب المسيح. وهناك سلسلتان للنسب تظهران للقارئ السطحي متناقضتين. على أن السلسلة التي أوردها متى هي ليوسف، والتي أوردها لوقا هي سلسة نسب مريم. ولما كان يوسف من نسل يكنيا. فليس له الحق في العرش (إنظر إرميا 22: 30 ، 2 ملوك 2: 24 ومتى 1: 11). ولكن مريم ليست من نسل يكنيا. ولما لم يكن يوسف أباً ليسوع، فإن ليسوع الحق في العرش باعتبار أنه نسل المرأة مريم (لوقا 3: 23).
ويعارض البعض قصة ميلاد يسوع العذراوي بحجة أن مرقس (أقدم البشيرين، والذي سجل ما سمعه من الرسول بطرس) لم يذكر القصة، كما أن يوحنا لم يوردها في إنجيله. ويقدم كلمنت روجرز الرد التالي: كتب مرقس إنجيله في وقت مبكر، كانت مريم أم يسوع حيَّة وقتها، وكانت معروفة لدى الكثيرين، ولم تكن القصة تحتاج لرواية، فوضع مرقس التركيز كله على تعاليم المسيح ومعجزاته، وبشكل خاص على قصة الصليب. أما يوحنا فقد كتب في وقت متأخر، كانت فيه قصة الميلاد العذراوي قد عُرفت وذاعت من قصة إنجيلي متى ولوقا. ويهتم يوحنا بتوضيح موعد وليمة الفصح، ويفترض أن قرَّاءه يعرفون مريم ومرثا. وهو يكتب للمسيحيين، أو على الأقل للمهتمّين بالمسيحية. ولو أن قصة الميلاد العذراوي كانت موضع جدل أو إنكار لكتبها يوحنا ليؤكد صحتها، ولكنه عندما يقول: والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا يضمّن الفكرة. ولم يذكر يوحنا أيضاً موضوعي المعمودية والعشاء الرباني لأنهما كانا قد أصبحا جزءاً لا يتجزأ من الحياة المسيحية، ولكنه يلمّح إليهما في روايته لقصة نيقوديموس، وفي الحديث عن إشباع الخمسة آلاف (13).
ومن الممكن أن يوحنا يشير إلى الميلاد العذراوي في قوله ابنه الوحيد (يوحنا 3: 16) ويقول جون رايس: أشار يسوع إلى نفسه مراراً بأنه ابن اللّه الوحيد . فهو لم يُولد من يوسف بل من اللّه، فهو ابن اللّه الوحيد وقد جاء هذا التعبير في الإنجيل ست مرات، منها مرتان تحدَّث فيهما يسوع عن نفسه. ولا يقول يسوع إنه أحد أبناء اللّه، لكن ابن اللّه الوحيد . ولم يولد أحد غيره من عذراء. ويمكن أن نقول (بمعنى روحي) إن كل مؤمن وُلد ثانية لرجاء حي (1 بطرس 1: 3) ولكن أحداً لم يولد كما وُلد يسوع بالروح القدس، من مريم العذراء بدون أب بشري (14).
على أن يوحنا يقدم سلسلة نسب يسوع عندما يقول: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة,.. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً (يوحنا 1: 1 و14)، إنه يرجع إلى الأزل متجاوزاً الميلاد العذراوي.
أما بولس فقد آمن بقصة الميلاد العذراوي، لأن لوقا كان رفيق بولس في السفر والخدمة، وهو الذي روى لنا قصة الميلاد. ولا شك أن بولس كان يعلم القصة وأشار إليها عندما قال: أَرْسَلَ اللّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ (غلاطية 4: 4).
1 – أدلَّة تاريخية على صحة الميلاد العذراوي:
تمت كتابة الأناجيل في وقت قريب من وقت ميلاد المسيح، فلم تمض فترة بين الميلاد وبين تسجيل قصته لتسمح للأساطير بأن تُنسَج حولها. ولو أن قصة الميلاد العذراوي لم تكن صحيحة، فإن سؤالين يعترضاننا:
(ا) لو أن قصة الميلاد العذراوي لم تكن مؤسسة على حقائق، فكيف كانت تنتشر بمثل السرعة التي انتشرت بها؟
(ب) لو لم تكن الأناجيل صحيحة تاريخياً، فكيف حدث قبولها في العالم كله في هذا التاريخ المبكر؟
يقول جريشام ماتشن: لو أن العهد الجديد لم يذكر قصة الميلاد العذراوي فإن الشهادات التي جاءتنا من القرن الثاني عن انتشار عقيدة الميلاد العذراوي قبل أواخر القرن الأول الميلادي، تكفي لإِثبات هذه الحقيقة (15) ولقد كانت هناك طائفة مسيحية اسمها الأبيونيون رفضت تصديق أن العذراء تلد ابناً (إشعياء 7: 14) وقالوا إن ترجمتها هي سيدة شابة تلد ابناً ولكن الثابت أن الكنيسة رفضت فكرة الأبيونيين! وقد آمن كل المسيحيين بالميلاد العذراوي، ما عدا الأبيونيين وقليلين من الغناطسة (العارفون باللّه)، فقد كان الإيمان بالميلاد العذراوي جزءاً لا يتجزأ من إيمان الكنيسة.
ومما يؤيّد ذلك تاريخياً، شهادة الآباء الأقدمين، فأغناطيوس (110 م) يقول في رسالته لأهل أفسس: إلهنا يسوع المسيح حُبل به بالروح القدس في رحم العذراء مريم . ويقول عذراوية القديسة مريم والمولود منها… أسرار أجراها اللّه في الخفاء، والعالم كله يتحدث عن ذلك . وقد أخذ أغناطيوس هذه الحقيقة عن معلّمه يوحنا الرسول. وكانت هذه العقيدة معروفة. وقد هاجمها كيرنتوس عدو الرسول يوحنا، ويقول جيروم إن كيرنتوس علَّم أن المسيح وُلد من يوسف ومريم كأي إنسان آخر. وقد التقى الرسول يوحنا بكيرنتوس في حمام عام، فصرخ يوحنا: لنخرج كلنا من هنا قبل أن ينهدم الحمام على كيرنتوس عدو الحق .