رب أو كاذب أو مجنون!
من هو المسيح؟ لقد علَّق المسيح أهمية كبيرة على من يقول الناس إنه هو، وقال كلايف س. لويس، الذي كان أستاذاً بجامعة كامبردج، وكان يوماً ما لا أدرياً – قال: إني هنا أحاول أن أمنع من يُجرَّب أن يقول سرّ القول الفارغ: إني أقبل المسيح كمعلم أخلاقي عظيم، ولكني لا أقبل دعواه بأنه اللّه، فهذا ما لا يجب أن يقوله عاقل! فإن ما قاله المسيح عن نفسه لا يجعل منه معلماً أخلاقياً عظيماً، لكنه إما أن يكون مجنوناً، أو شيطاناً. فهو إما مجنون، أو هو الشيطان نفسه. قد ترفضه وتحكم عليه بالجنون، أو تبصق عليه وتقتله كشيطان، أو تجثو عند قدميه وتدعوه رباً وإلهاً. ولكن لنترك جانباً اللغو الفارغ بأنه معلم عظيم، فلم يترك لنا هو الفرصة لنقول مثل هذا الكلام، ولم يُرِدْ لنا أن نقوله! (6).
إن كلام المسيح جزء من ذات نفسه، وليس نطق نبي يعلن كلام سواه، فلو أننا فصلنا بين يسوع وأقواله، لا تعود لها قوتها. ويقول المؤرخ العظيم كنث لاتوريت أستاذ التاريخ المسيحي في جامعة ييل: ليست تعاليم المسيح هي التي تعطيه الأهمية الكبيرة، مع أنها كافية لأن تفعل ذلك، ولكن العظمة في الشخص الذي قال ما قاله! ولا يمكن أن تفصل بين المعلّم وتعاليمه، فالمسيح وتعاليمه غير منفصلين. إن تعليمه عن ملكوت اللّه وعن السلوك البشري وعن اللّه تعاليم هامة، ولكنها لا تنفصل أبداً عن شخصه (7).
المسيح يقول إنه ابن اللّه وهناك احتمالان:
الاحتمال الأول: هو القول الصحيح، والاحتمال الثاني : هو القول الكاذب. القول الصحيح بأنه رب ويحوي احتمالان هما: الأول: يمكن أن نقبله، والثاني: يمكن أن نرفضه. والاحتمال الثاني بأنه يقول الصدق يحوي احتمالان: الاحتمال الأول: لم يعرف أن ما يقوله كذب، فكان مخدوعاً عن إخلاص، أو ربما كان مجنوناً. والإحتمال الثاني: أنه عرف أن ما يقوله كذب، فأعطى الصورة الخاطئة عن قصد، فكان كاذباً ومرائياً وشيطاناً وأحمقاً، لأنه مات بسبب إدعاءه الكاذب.
1 – هل السيد المسيح هو اللّه؟
قال المسيح عن نفسه إنه اللّه (في الفصل الأول) ولم يترك مجالاً لفكرة أخرى. ولا زلنا اليوم نسأل السؤال الذي سأله المسيح لتلاميذه: مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ (مرقس 8: 29).
وكلام المسيح عن نفسه ربما يكون خطأ أو صواباً. فإن كان صواباً، فهو اللّه فعلاً، ويجب أن نقبل سيادته علينا أو نرفضها، ونحن بلا عذر.
ولنبحث أولاً إن كان قوله إنه اللّه خطأ. فإن كان خطأ، فإن أمامنا احتمالين: إمّا أنه عرف أنه مخطئ، أو أنه لم يعرف. وسنفحص كُلاّ من هذين الاحتمالين:
2 – هل المسيح كاذب؟
لو أن المسيح عرف أن قوله بألوهيته خطأ، لكان كاذباً! ولو كان كاذباً لكان أيضاً مرائياً، لأنه طالب أتباعه بالأمانة المطلقة مهما كان الثمن، بينما هو نفسه ليس أميناً ولا صادقاً!
وأكثر من هذا: إنه شيطان، لأنه طالب أتباعه بالإيمان به والاتكال عليه لحياتهم الأخلاقية. ولو كان عاجزاً عن تتميم ما وعد به، وهو يعلم ذلك، لكان شريراً بصورة رهيبة!
وأخيراً يكون أحمق، لأن ادعاءه الباطل بالألوهية قاده إلى الصليب.. أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُّوَةِ، وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ . فَمَّزَقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟ فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ (مرقس 14: 61 – 64)، أَجَابَهُ الْيَهُودُ: لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللّهِ (يوحنا 19: 7).
كتب وليم لكي أحد مؤرخي بريطانيا العظماء، وأحد عتاة مقاومي المسيحية في كتابه: تاريخ الأخلاق الأوربية من أغسطس إلى شرلمان قال: المسيحية وحدها قدمت للعالم شخصية نموذجية ألهمت الناس الحب خلال ثمانية عشر قرناً، وأثَّرت في كل العصور والأمم والأمزجة والحالات. ولم تقدم للعالم أعظم نموذج للفضيلة فقط، لكن قدَّمت أيضاً أعظم حافز لممارستها. إن السجل البسيط للسنوات الثلاث لحياة هذه الشخصية العظيمة عملت في تجديد البشر وتهذيبهم، أفضل مما عمل كل الفلاسفة والوعّاظ ورجال الأخلاق (8).
وقال المؤرخ المسيحي فيليب شاف: لو أن هذه الدعوة كانت على حق لكانت تجديفاً أو جنوناً. ولكن الغرض الأول لا ينسجم مع طهارة يسوع الأخلاقية وسموه الرفيع، كما تتضح من كل عمل ومن كل كلمة باتفاق الجميع. ولا يمكن لشخص بمثل وضوح فكر يسوع وسلامته أن يخدع نفسه فيظن أنه اللّه، فإنه لم يفقد اتّزانه أبداً، وسَبَحَ بمهارة فوق كل تيارات الاضطهادات والمتاعب كما تسبح الشمس فوق الغيوم، وقدَّم أحكم الأجوبة لأعقد الأسئلة، وتنّبأ بصَلبه وموته وقيامته في اليوم الثالث، وحلول الروح القدس، وتأسيس الكنيسة، وخراب أورشليم. وتحققت كل نبواته تماماً.
هذه الشخصية الفريدة الأصيلة الكاملة ذات السمو الرفيع الذي يعلو فوق كل عظمة إنسانية لا يمكن أن تكون كاذبة أو خيالية. إنه أضخم الأبطال ويحتاج الأمر إلى بطل أعظم من يسوع لينسج مثل شخصية يسوع، لو أن هذا ممكن! (9).
وفي كتاب آخر يقول شاف: فكرة خداع المسيح لتابعيه تنافي كل مبدأ أخلاقي حتى أنها تحمل في ذاتها دليل بطلانها، وقد اخترعها اليهود الذين صلبوه ليُخْفوا جريمتهم، ولكن لم يقبلها أحد من العلماء الذين يحترمون أنفسهم، في أي عصر من العصور. وكيف – باسم المنطق والعقل والاختبار – كيف يمكن لمضلل كاذب أن يعلّم ويحيا أطهر وأسمى حياة بشرية – بكل هذا الصدق والحق – من بدء حياته إلى نهايتها؟ وكيف كان يمكن أن يحيا هذه الحياة الأخلاقية السامية، ويبذل نفسه من أجل هدفه السامي النبيل؟ (10).
إن الذي يحيا كما عاش المسيح، ويعلّم كما علم، ويموت كما مات، لا يمكن أن يكون كاذباً؟ فما هو البديل الآخر؟
3 – هل المسيح مجنون؟
وإذا كان من غير المعقول أن يكون المسيح كاذباً، فهل يمكن أنه ظن في نفسه أنه اللّه، عن طريق الخطأ؟ فمن الممكن أن يخطئ الإنسان منا عن إخلاص!
ولكن في المجتمع اليهودي المؤمن إيماناً جازماً بالوحدانية، لم يكن ممكناً لشخص أن يعلن عن ألوهيته، ويقول للناس إن مصيرهم يتوقّف على إيمانهم به، إلا إن كان مجنوناً بكل معنى الكلمة. فهل كان يسوع مجنوناً؟
كتب كلايف لويس: لم يكن ممكناً إيجاد تفسير آخر أسهل قبولاً من التفسير المسيحي لحياة يسوع وتعاليمه وتأثيره. ولا يمكن تعليل عمق فكره وسمو تعاليمه إلا إذا أدركنا ألوهيته. ولقد تتابعت النظريات غير المسيحية عن شخص المسيح وانتهت إلى الفشل (11).
كان نابليون عبقرياً في معرفة الناس، وقد قال: أنا أعرف الناس، لكني أقول لكم إن يسوع المسيح لم يكن إنساناً. إن أصحاب العقول السطحية يرون تشابهاً بين يسوع وبين مؤسسي الإمبراطوريات والديانات الأخرى، ولكن هذا التشابه غير موجود، فإن بين المسيحية وأي دين آخر مسافة لا نهائية. وكل ما في المسيح يذهلني، وروحه ترعبني، وإرادته تربكني، فلا مجال للمقارنة بينه وبين أي شخص آخر في العالم، فهو نسيج وحده. ولا يمكن تفسير أفكاره وعواطفه والحقائق التي أعلنها وطرق إقناعه، بالمعايير البشرية… وكلما زاد اقترابي منه، وكلما فحَصْتُ عنه، وجدته أعلى مني، ويبقى عالياً من كل الوجوه علواً مسيطراً. إن ديانته ثمر فكر غير بشري بلا شك، ولا يوجد له نظير في حياته وفي مثاليته.. إنني أفتش في التاريخ عن نظير له، أو شبيه بإنجيله، فلا أجد. فلا التاريخ، ولا البشرية، ولا العصور، ولا الطبيعة، قدَّمت لي شبيهاً له. فكل ما فيه هو فوق طبيعي (12).
قال تشاننج من الطائفة اليونيتريانز (طائفة مسيحية ترفض ألوهية المسيح وتؤمن بالتوحيد المطلق): لا يمكن أن نلصق بالمسيح تهمة الحماس الزائد بالنفس، ولا نجد في تاريخه أثراً لذلك، لا في تعاليمه الهادئة، ولا في ديانته العلمية الخادمة. لقد قدم ديانته ومعجزاته ببساطة وإقناع، في إدراك كامل للطبيعة الإنسانية، بدون تفريق بين طبقات البشر. ومع أنه أعلن سلطانه على العالم الآتي، ووجَّه فكر تلاميذه للسماء، إلا أنه لم يُثْرِ خيال التلاميذ بوصفٍ مفصَّل للعالم الآتي. إن أشدَّ ما يميّز شخصية المسيح هو هدؤه وامتلاكه لذاته. كم كان تواضعه عظيماً! هل تعكس الصلاة الربانية حماسة عاطفية؟ أبداً! حتى عطفه على الناس، مع أنه كان عطفاً صادقاً عميقاً، كان عاقلاً مهيباً. لم يفقد ضبطه لنفسه أبداً وهو يعطف على الآخرين، ولم يهرع لعمل صالح بطريقة الانفعال والحماس والتهّوُر.. لقد عمل كل شيء بهدوء منتظم لا نراه إلا في أعمال العناية الإلهية (10).
ويقول فيليب شاف: هذا العقل الصافي كالسماء، المنعش كنسمات الجبل، الحاد كالسيف الماضي، القوي الصحيح، المستعد دوماً والمسيطر دوماً – هل يمكن أن يكون عُرْضة للتطّرف أو الخداع وهو يعلن شخصيته ورسالته؟ إن مثل هذا الظن ليتنافى تماماً مع العقل! (10).
4 – المسيح الرب:
يحتاج جوابك على سؤال من هو المسيح؟ إلى ذهن قوي متيقّظ. إنك لا تقدر أن تقول ببساطة إنه معلم عظيم وكفى، فليس هذا صحيحاً. إما أن يكون مضلِّلاً أو مجنوناً، أو إلهاً. ويجب أن تختار. ولكن كما قال الرسول يوحنا: أَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ (يوحنا 20: 31).
إن البرهان لا يُدحض على أن يسوع هو اللّه. على أن البعض يرفضون البرهان الواضح بسبب علل أخلاقية، ولكن علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا لنقرر إنْ كان يسوع كاذباً أو مجنوناً، أو رباً وإلهاً، كما قال هو عن نفسه!