عمرو عبد الرزاق
عمري / 28 سنة
. والدتي انفصلت عن والدي منذ صغر سني بالطلاق
. حصلت على دبلوم المعهد الفني الصناعي ، تخصص طباعة
! أعمل مع أخي بمحل خردوات ، وهو من كنت أريد قتله .. مع أنه هو الذي قام برعايتي منذ انفصال والدي ، أي أنه هو الذي قام بتربيتي ! كيف ؟! هذا هو اختباري ، إذ اكتشفت قيمتي الحقيقية ، لأنني محبوب
وحتى ما تعرف إجابة كل هذه التساؤلات التي تدور في ذهنك الآن ، يلزمني العودة من البداية . تلك البداية التي كانت يوماً مريرة جداً ، إذ أنني ؛ ومنذ مولدي شخص مهمل ، لا قيمة له عند أي إنسان ، فوالدتي انفصلت عن والدي وأنا في أيامي الأولى في الحياة – إذ كنت أبلغ وقتئذ شهرين فقط ! – وتزوجت من شخص آخر ، ووالدي ، أيضاً ، تزوج بأخرى ، وبقيت وحدها مع أخي ، الذي كانت ، وقتئذ لا يزيد عمرة عن العشرين عاماً ، فقد كانت نشأة غريبة بكل تفاصيلها !
كل هذا ولد في شعور بالكراهية لوالدى ، وإن كانت تبدل تجاه والدي ، الذي توفيت زوجته بعد ثلاثة أعوام من زواجهما ، وكان دائم الدفاع عن نفسه متهماً أمي بأنها السبب في كل ما جرى لي .. فقد كانت تلك هي البداية !. وكان أخي الكبير ” مهند ” ، هو مثلي الأعلى في كل شئ ، إذ كان متفوقاً في دراسته ، وينال دوماً كل تقدير ، سواء من العائلة ، أو من الجيران ، وكان هذا سبباً في أن أقتدي به ، إلا أن عقابه المتكرر لي كان يعوق ارتباطي به ، حتى صار حلمي أن أكبر ، وأكبر حتى أرد له كل أنواع العقاب الذي كان يعاقبني به .. لعلك تضحك ! إلا أن هذا ما كان يدور بداخلي حتى بعد سفره للخارج لعدة سنوات طويلة . وبالفعل كنت أتدرب على الرياضات العنيفة أثناء فترة سفره ، وفعلاً صرت رياضياً ، يمكنك أن تقول عني ذو مستوى جيد .
! وفي أثناء فترة سفر أخي ، ارتبطت بوالدي أكثر ، إلا أنني كنت فاشلاً في تكوين صداقات عميقة ، وذلك بسبب أنني إنسان كذوب .. فقد كان الكذب هو لغتي المفضلة ، حتى أنني كنت لا أعرف غيرها ، ولماذا أكذب ؟ بالطبع كنت أحاول أن أحيا قيمة لذاتي كنت افتقدها ، فقد كنت بكذبي أجتذب الزملاء من حولي ، خالقاً جواً من المرح حولي ، حتى استحالت حياتي إلى سلسلة من الأوهام ، والتي أرفض باستمرار الخروج منها مما سبب لي الكثير من المشكلات . وما تعلمته أيضاً من أبى هو أن المرأة هي جسد فقط – فقد كان يهيم بالنساء – ولا يمكن أن ينتفع بها إلا بالاستمتاع فقط .. هكذا تعلمت ، وهكذا كنت
. وكان من الممكن أن تسير حياتي على هذا المنوال ، لولا هذا الخطاب الذي وصلنا من أخي ، والذي فيه يعلن لنا عن إيمانه بالمسيح ، وليس هذا فقط بل ويدعونا إلى الاهتداء إليها .. لقد كانت هذه الرسالة بمثابة الزلزال الذي أرق حياتنا ، ومع أنني كنت لا أدرك قيمة ذلك تماماً ، إلا أنني ، ومن خلال والدي كنت أشعر بأنه أمر “مسبب للعار” بالنسبة لنا ، ولي على وجه الخصوص . لقد كان قرار أخي وبلا شك ، سيسبب لي أنا شخصيا ضرراً كبيراً ، فماذا يمكنني أن تؤول إليه صورتي أمام الناس .. الجيران ، والزملاء ، والأصدقاء .. كنت أشعر بالعار ، ولكن أبي أمرنا بتكتم هذا الأمر عن كل من حولنا ، وبالأخص أفراد العائلة . وكانت مراسلات بين أبي وأخي ، وكان ممنوعاً علينا منذ هذه اللحظة مكاتبته ، إلا بعد أن يقرأ والدي الرسالة . وأيضاً كان ممنوعاً علينا قراءة رسائل أخي ، فقط والدنا هو الذي يتسلمها ، ويخبرنا بما كان يود هو أن يخبرنا به . وما كان هذا ليؤثر على ، فقد كنت أعلم بأن والدي – والذي كان عندي حكيم جداً – ولكن ما كنت ألمسه من تحركات والدي بأن أخي ” مهند ” لا يستجيب لدعوات والدي ، والتي كانت تارة باللين ، وتارة بالتهديد والوعيد
! وكان توقعي أنا شخصياً ، وبالذات بعد أن علمت من والدي بأنه هدده وتوعده ، بأن أخي لن يعود إلى بيتنا ، أو بلدتنا ، مرة أخرى ، إلا أنه ، ويا للعجب ، عاد . ففي أحد الأيام ، ليلاً وجدنا صوت قرع على الباب وقمت بفتح الباب ، وما كان الطارق سوى ” مهند ” ، عجبت جدا لرؤياه ، ولكنني كنت سعيداً جداً لرؤيته ، فقد كان في داخلي احتياج له ، وكم تمنيت لو بدل رأيه في المسيحية وعاد إلى الإسلام ! . وبرغم انتظاري الطويل للانتقام منه ، إلا أنني كنت أحبه . وكنت أتوقع منه أن يكون قد تبدل ، وصار ضعيفاً ، وهذا سوف يحسن من قيمتي عند نفسي ، أو عند والدي ، ولكنني فوجئت بوالدي يرحب به ، ولا يتكلم معه عن موضوع إيمانه – فقط في اليوم الأول – إلا أنه في اليوم التالي تبدلت الأحوال ، وبالذات عندما علم والدي بأن أخي مازال على قراره ” بالإيمان بالمسيح ” ، حتى استحال بيتنا إلى دار للندوات والمناظرات بين أخي ، وما كان يجلبه أبي من شيوخ ، وأساتذة جامعات ، محاولة منه لإقناع ” مهند ” بالعدول عن إيمانه . وكنت قد حضرت إحدى هذه المناظرات ، والتي كان أخي بينهم ، وحيداً ، بينما هم كُثر ، إلا أنه كان يفوقهم قوة ، سواء بالحجة ، أو بالهدوء ، وهو ما كان يثير دهشتي .. أما يخاف هذا العنيد من كل هذا الزخم الغفير من حوله .. ومن أين له هذا الهدوء ، وهذه الثقة .. ؟ ومع أنني كنت لا أتعجب من سعة علمه ، فقد كان دائماً واسع الاطلاع ، ولكن كان هدوءه ، وثقته بنفسه ، وابتسامته الهادئة ، كل هذا ما كنت أعجب له ، فقد كنت أعلمه جيداً ، ذاك الإنسان العنيد ، الغضوب ، ذو الكبرياء والأنفة .. فطوال كل هذه المناظرات ما وجدته أبداً ضعيفاً
. وانتهى الأمر بطرده من البيت ، بعد أن جرده والدي من كل أمواله ، وكنت أود لو ألحق به ، ولكن وأعطيه بعض المال ، لكن هو كافر لا يستحق ، لربما بعد أن يبيت في الشارع بضعة أيام يعود إلينا ، لكنه لم يعود ! إلا مرة واحدة ليعتذر فيها لوالدي عن أسلوب الجارح – بحسب تعبيره !- وكلامه القاسي عن الإسلام ، ولكنه لا يعتذر عن إيمانه بالمسيح . وطبعاً ثار والدي مجدداً وطرده من البيت من جديد ، ولكنني هذه المرة لحقت به ، فقد كنت أرغب في أن أعرف أين هو ، وكيف يعيش ، فطمأنني وعرفني بأنه يحضر كل يوم أحد في إحدى الكنائس إن أردت رؤيته. وفلاً ذهبت مرة ، بعد تردد طويل ، إلى هذه الكنيسة وحضرت معه ، فقد كان يوماً عجيباً ، فلأول مرة أشعر بالرهبة من مكان ما ، كان المكان كذا مليئاً بالرهبة والخشوع ، فما كان مني إلا أن تركته هارباً من تأثير هذا المكان
! ومات أبي ، وفوجئت بحضور ” مهند ” الجنازة ، رغم أن هذا كان يشكل خطورة على حياته ، إذ قد انتشر خبره بالحي ، وكثير من المتدينين توعدوه ، إلا أنه حضر ، وهدوءه وثقته التي لا تتزعزع ، ورغم تجريحي له في هذا اليوم .. إذ كنت اعتبره أحد أسباب وفاة والدي .. لكنه لم يغضب بل كان بمثابة حمامة سلام بيني وبين اخوتي
. بعد وفاة والدي ، شعرت بالوحدة ، والفراغ ، وكان هذا مدعاة لفتح خزينة والدي والتي كان من بين محتوياتها ، رسائل ” مهند ” . لقد كانت لغته قوية جداً ، ومؤثرة ، وما كان يثيره من أسئلة حول الإسلام قوية الحجة ، وقد اكتشفت صدقه ، وبالأخص عندما توجهت بأحد تلك الأسئلة لشيخ كنت أثق في علمه ، إذ كان أستاذاً في كلية أصول الدين ، ففاجئني بثورته في وجهي ، متهماً إياي بالجهل والكفر ! . وطبعاً غضبت جداً لموقفه الغريب هذا ، لقد كنت أريد أن أطمئن نفسي على صدق ما ورثته من عقيدة ، لكن لا جواب ، ولا حتى احترام لعدم معرفتي ، ومن هنا قررت أن أبحث وأعرف ، وترددت أكثر من مرة على تلك الكنيسة علني أحظى برؤية أخي ، وما كنت أجده أبداً
وعلمت ذات يوم من أختي بأنه قد تزوج ، وبدأ في تجارة الخردوات ، وحصلت على عنوانه منها ، وقررت زيارته ، وكان ، دوماً يستقبلني بحفاوة غير مبالغ فيها ، وكل مرة كنت ألمس بأن محله ، وكأنه تلك الكنيسة التي زرتها أول مرة ، معاملاته مع موظفيه ، والعاملين معه ، معاملة ملؤها الاحترام والتقدير ، هذا برغم أن من بينهم مسلمين ، وهذا ما عجبت له أيضاً . وزرته مرة ، ثم مرات ، في منزله ، وتأثرت جداً من معاملاته مع زوجته ، وابنه الوحيد ، لم يكن يعاملها كما تعلمت من والدي ، بل كان يعاملها كإنسان كامل ، وهي أيضاً كانت تختلف عن كل من تعرفت بهم ، وتعجبت من أنها مسيحية وقبلت بالزواج من أخي ، برغم رفض أهلها لهذا الزواج .
! باختصار يمكنك أن تقول ، ما كان يعيشه أخي ، شئ مذهل لي على كل المستويات ! ، ولعل ما كان يضايقني منه ، هو أنه ما كان يحاول أن يحادثني عن المسيحية ، وهو ما كنت أريده .. مع أنني ما كنت أسأله ! فقد كان يحترم حدودي ، حتى عندما كنت أسأله عن شأن من شئون عقيدته ، كان يقترح على كتاب ، وكنت إذا ألححت عليه بأن يجيبني شفاها ، كان يجيبني لماذا لا تحصل على المعلومة بنفسك ؟ فأنت إن قراءة تكون بعيداً عن تأثير محدثك ، اقرأ! تلك كانت كلماته ، والتي منها كانت البداية الجادة الحقيقية ، والتي قادتني إلى مصدر كل قيمة حقيقية للإنسان ، للمسيح ، الإله المتجسد ، الذي أحبني .. ويحبك أيضاً
. تخليت عن كذبي ، فليس هناك داع لأن أحيا خيالاً ، ما دام الواقع مع المسيح أجمل وأروع ، وهذا ما لمسه مني جيراني ، وأصدقائي ، فثاروا ضدي وكفروني ، بل امتد الأمر إلى محاربتي في عملي ، فرحب أخي بعملي معه ، وهو ما استمتع به معه ، نحيا شركة مقدسة ، في عائلة المسيح ، قيمتي الحقيقية