(١) إن أول شيء تعلنه لنا الحقيقة أن النفس البشرية لا تستطيع من ذاتها بلوغ الكمال الذي تنشده، لأن ناموس الخطية لها بالمرصاد. وقد كشف الرسول لنا هذه الحقيقة، إذ قال: «إِنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ. إِذاً أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى أَنَّ ٱلشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ. وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي» (رومية ٧: ١٨ – ٢٣).
(٢) فكلمة الرسول هنا تقدم لنا وصفاً للصراع، القائم في نفس الإنسان بين النعمة والفساد. بين ناموس الله الذي يسر به الإنسان ويريد أن يعمل بموجبه، وبين ناموس الخطية، التي تجذب الإنسان وتسبيه، وتحمله على صنع ما لا يريد. ولكن الرسول الكريم إذ شاء التحرر من ناموس الخطية والموت أطلق صرخته الداوية نحو السماء: «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟» (رومية ٧: ٢٤) حينئذ تراءى له المنقذ في شخص الكلمة المتجسِّد فتهلل قائلاً: «أَشْكُرُ ٱللّٰهَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا!» (رومية ٧: ٢٥).
وهذا السر تكشف قبلاً لرجل الله أيوب، حين عجت عليه المصائب والآلام، غمراً ينادي غمراً. ومن قلب حاجته إلى وسيط بينه وبين الله قال في شكواه: «لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. إِذاً أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ. لأَنِّي لَسْتُ هٰكَذَا عِنْدَ نَفْسِي» (أيوب ٩: ٣٣ – ٣٥) فتجسد الأقنوم الثاني لله، كان إذاً حاجة الإنسان الملحة، ليفتديه ويرجعه إلى إلهه ويصالحه معه.
(٣) كل إنسان يعرف من اختباره الشخصي أن الميول الفاسدة ساكنة في جسده، وهو للأسف يطاوعها. وإننا لنذكر القول الرسولي: «ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ٢٣)… «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا» (١ يوحنا ١: ٨) وفي الإسلام إقرار بهذه الحقيقة، كقول القرآن: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ» (سورة النحل ١٦: ٦١) ومن هنا يتضح لنا تاريخياً، علاوة على ظهوره فكرياً أن الإنسان الطبيعي لا يمكن أن يبلغ قمة قواه الروحية، حتى يتحد ويقاد بما هو أسمى وأرقى من الإنسان.
(٤) إلى هنا كان البحث محصوراً في توضيح ضعف الإنسان، وعجزه عن السمو إلى الصورة التي كانت لآدم قبل السقوط. ولكن الوقوف عند هذا الحد معناه الخيبة. ونحن لا نستطيع أن نتصور أن خيبة مثل هذه، هي من مقاصد الله القادر على كل شيء. كلا! فالرب صالح وإلى الأبد رحمته. وهو في صلاحه لا يترك الإنسان المخلوق على صورته في حال سيئة كهذه، تؤدي به إلى الهلاك. فإذ قد عجز الإنسان عن إكمال مقصد الله، فالله سيقيض له كائناً آخر يكمله. فمن هو؟ هو كائن من المخلوقات بالغ كمال القداسة؟ أم هو الله نفسه؟
(٥) لنحرص على التمسك بالأمور الراهنة الأكيدة، ولا نحاول التعلل بنظرياتنا، حتى ولو كانت مؤسسة على قواعد لها جذور في بعض الأديان. لأن الاستسلام لها يفضي لا محالة إلى الزيغ عن محجة الصواب. ولنذكر هذه الحقيقة أنه ليس من دين ينكر أنه في الإنسان ميل، لأن يكون له اتصال مباشر بالله. فإلى الله يصلي الناس، ومنه يطلبون العون والهدى. وهو فعلاً يعين ويهدي أقدام المؤمنين في طريق السلام. والأعظم من هذا أننا ندرك جميعاً أن الغرض من الأشياء الرمزية التي يطلق عليها اسم الأمور الغامضة، إنما هو ارتباط النفس التام بالله. هكذا قال رجل الله العلامة أغسطينوس في صلاته: «أيها الرب، لقد خلقتنا لنفسك. فلا تطمئن نفوسنا، إلا بالاستراحة في ظلك الإلهي».
إذن لا سبيل للظن أن بين الله والإنسان وسيطاً مخلوقاً، حتى ولو كانت طبيعته فوق الطبيعة البشرية. فالأدلة متوافرة على ما هو نقيض ذلك. إذن إن كان لا بد من بلوغ الخليقة إلى ذلك الكمال، الذي قصده الله لها، وكان لا بد من افتداء الإنسان، تحتم أن يكون هذا كله بعمل الله نفسه. له الحمد والمجد إلى الأبد.
ولإتمام هذا القصد اقتضى أن يكون في اللاهوت أقانيم، ليتم التجسد في اختيار أقنوم منها دون غيره. هكذا صارت المسرة الإلهية، أن يفتدي الرب جنسنا الذي سقط في الخطية وليس له رجاء ولا معين غير الله متجسداً. لأنه وحده قادر على ما يقتضيه الخلاص. فلوازم التجسد هي باعتبار الله أن يتخذ جسداً بواسطة أقنوم من الأقانيم.
هنا لست في معرض الرد على السؤال القائل: أما كان في وسع الله أن يخلّص الساقطين من غير تجسد؟ إلا أنني أؤكد بالاستناد على كلام الله أن التجسد طريق موافق ولائق، وفي غاية المناسبة، وفريد في الحكمة لأجل إتمام المقصود. وإن حدوث التجسد يرجح غاية الترجيح، إن ذلك ضروري لإتمام قصد الله بكماله في عمل الفداء. وإن حال البشر الساقطين، تطلب ذلك وتحتاج إليه.